إيقاعات اللون ودلالة التشكيل لدى الفنانة (هالة الزريقي)
يمنات
محمد اللوزي
في فنها تتجسد الأصالة والمعاصرة في آن، تصيغ الروح المنتمية الى الارض والإنسان، تفتح أفقا لنرى التوق الى الآتي، من هذا التشكيل البديع الذي يشي بفنانة محترفة تمتلك المعنى أولا أوالدلالة كما اللون بأبعاده المختلفة ورمزيته. كأننا هنا أمام لوحات نسجتها الروح. لذلك فيها التجليات المدهشة ومسحة التلقائية والمشاعر الفياضة. إنها نابضة بالحياة والمشاعر التي نراها في عديد لوحاتها، وبالعفوية والتلقائية فيما يخص الانسان. هكذا يتشكل المرئي يوقظ فينا أحاسيس ومشاعر لانجدها إلا في المخبؤ الذي نستنطقه من خلال لوحات الفنانة (هالة الزريقي) وقد استطاعت أن تسبر أغوار البشري في بعض لوحاتها، وأن تدرك بأن ثمة رؤيا مكثفة وقوية وآسرة تأخذنا إليها بما تقدمه من فن يرقى الى مستوى الدهشة، بهذا المعنى تسيطر (هالة الزريقي) على فضاء لوحاتها على مساحتها، لتوزع الشجن الآدمي ورغبة التكوين، وتزرع الأمل والابتسامة كما الألم والمعاناة في لوحات أخرى. من كل هذا الاستنطاق فإن التأمل في كل لوحة تجعلنا نقف بصورة جلية الى مايجعل الريشة ذات بعد إنساني خلاق، لوحات متحركة فاعلة ومنفعلة أيضا، غزيرة في الهدؤ والبساطة كما العفوي أوالتلقائي بما يحمل المرء على سجيته.. اللون لدى (هالة الزريقي) ليس اعتباطيا أوكما اتفق. إنه توزيع متقن من الواقع او من الوجود برؤية ذات أبعاد مختلفة، فيها يتداخل اللون ودرجات تماهيه على مستوى من البساطة والوضوح والقدرة على استكناه المعنى. لقد أخذتنا ريشة الفنانة (هالة) بإبداعها وقدرتها وتميزها في التشكيل الى مدارج متعددة، وارتقاء الى حيث يكون الانساني هو البعد العميق في اللوحات، أكانت عن المكان في أصالته واشتغاله بماهو حيوي عبر تاريخ حافل بالابداع أنجزه أبن هذه الأرض ليشكل الفضاء الأجمل والأكثرتميزا في اللوحات، أو عن الإنسان كموجود في المكان يتناسب ويتناغم معه.. إن الواقع الذي تتآلف معه الفنانة (هالة الزريقي) وتكتشف خباياه هو الذي يمنحها القدرة على الالتقاط الذكي والواعي للمعنى او لنقل للرؤية باحترافية عالية وحس فني يرتقي الى مصاف الابداع والتميز والفرادة..، نرى الى هذا في لوحة الطفلة التي تجسد نظراتها والتفاتتها في نصف استدارة، المعنى العميق للطفولة المتأملة ببساطة الى مايشغل الذهن. إنها في اللوحة تكتنز كثيرا من الهدؤ ومسحة أمل وتأمل، كما أنها بعفويتها وتلقائيتها تعبر عن الواقع ومعاناته وفي حقها كطفلة بريئة تحفل بالآخر تتابعه تلقي بنظراتها عليه وبما يرتسم لديها من معنى وفي وقفتها وقد صرفها عما يجب الاشتغال عليه أو تعمل من أجله. إنها لوحة نابضة حيةوفاعلة بكل مافيها من روح نقية وغزيرة في المشاعر، وفي التكوين الطفولي الذي يحمل هم اليومي المعاش ولايقف عنده،، فثمة آخر ينصرف إليه ويكترث له..
في اللوحة الأخرى الفتاة الصنعانية بستارتها ذات الإيقاع اللوني المتعدد المتناسق المتناعم نجد الفتاة تحتفي بنفسها في بسمتها التي تلقي بها الى البعيد، في فضاء لوني مدهش يشي بالبهجة والفرح، في تفاصيل اللون المتآزرة ودقته وما تشع به اليدين من جمال، حضوره المعبر والمؤثر قوي، حتى لكأننا أمام لوحة تستنطق اللطف الصنعائي بما تتمتع به من زهو وعبق التاريخ وجمال التشكيل. إنها الفتاة الأبرز والأقوى تجسيدا لجماليات اللون وبهجة الروح..
في لوحة الملكة بلقيس تقدم (هالة الزريقي) لوحة معبرة قوية ذات معنى عميق تستوحي ذلك من القرآن الكريم والكتاب الذي ألقي عليها من نبي الله سليمان. نراها تقبض الكتاب مطويا بين يديها بعد أن قرأته وهي مطرقة التفكير، في حيرة من امرها تتأمل وتراجع الذات بقوة استبصار وحكمة، ولعل نظرة الملكة تشي بأنها قد وقعت في حيرة بين أن تقبل بمضمون الخطاب المرسل إليها وتتعامل مع الملك سليمان او ترفضه،وبين الأمرين نجدها مهمومة، إنها لحظة استطاعت الفنانة التقاطها وتصويرها بعمق، لتجسد المسافة الزمنية بين قراءة الكتاب والتأمل في محتواه واتخاذ القرار بتروي واتزان.. نحن إذا أمام رؤيا تشكيلية نافذة الى الحكمة والبعد الدلالي والجمالي العميق، وتجسيد ذلك في لوحة تستنطق الموقف وتكشف عن موروث سبئي في التعامل مع الواقع بروية واستبصار وإدراك للممكن والبناء عليه، بهذا التجسيد الفني الرائع، الذي يتآزر فيه المكان والتاريخ في الأعمدة السبئية كخلفية للوحة مع الملكة بلقيس وهي في جلستها الاعتيادية التي لاتحتاج الى حجاب وحراس قدر احتياجها الى لحظة صفاء واستنارة وعقلية متقدة. هنا نجد الفنانة (هالة الزريقي) تضفي بعدا رمزيا لمعنى الحكمة يمانية ولعلها بهذه المقاربة تقدم اصدق دلالة لمعنى الفن في بعده (الابستمولوحي) وتكشف بتكوينها الجمالي عن لحظة فارقة في اتخاذ القرار السيادي للملكة بلقيس التي يحفظ لها مكانتها ويحافظ على وطنها دونما تهور او خطل او عجز في التفكير. هذه الدلالة هي مانفتقده اليوم تماما، التروي والتأمل والحكمة، واتخاذ القرار الصائب وهو مانفتقده، فكأن ثمة انفصام بين التاريخ والحاضر أحدث كل هذا العبثي..
في لوحة اخرى ((الطفلة)) تتوسد الحجارة نائمةمنهكة فيما نرى في الخلفية آثار دمار لبيوت بفعل الحرب، في المقابل الطفلة تقبض بيدها أغصان الزهور ومستغرقة في النوم، اللوحة هنا تتحدث عن الواقع المؤلم والقاسي الذي ارهق الحلم والمستقبل في آن، هكذا هي اللوحة ل (الطفلة) التي اتخذت من الأرض مأوى لها وهي في حالة اجهاد وتعب توقعنا في رؤية المعاش وهو يحدث هذه المرارة ويقدم الخراب على ماسواه ويقهر الإنسان، ومع هذا ثمة اصرار على الحياة وعلى الجمال والقبض عليه كما نراه في اغصان الزهر التي تقبض بيدهاعليه ، كأنما هناك اصرار رغم الخراب في أن يظل الأمل ولو مكسورا، فالطفلة تحفل بالزهر والوردة المسجاة أكثر من كل الدمار الذي يطال المكان .
لاشك أن الفنانة (هالة) هنا تعطي للواقع دلالته بكل مافيه من مآسي فيما يقابله المستقبل في تمسك طفلة بأغصان الزهور رغم كل المعاناة. إنها رسالة قوية في حاجتنا الى الجمال والسلام والحب، وإلى ماينبغي خارج العبثي وهذه الحرب التي فقد المتحاربون فيها رشدهم. لعلنا لانبالغ إذا قلنا: أن اللوحات التي شكلتها ريشة الفنانة، متآزرة في دلالاتها تحتفي بالسلام والحب وتدعو الى التبصر والحكمة وتستقريء الواقع، تستنطقه، ومن ثم تقدم رؤيتها للمستقبل، فضاء اللون في اللوحات يغمرها بالسكينة والبساطة وبمسحة من التلقائية الجميلة ونبض المشاعر. لانجد لوحة إلا وهي نابضة بمعنى الحياة متحركة نفسيا ودلاليا في نظرات العيون التي تسايرنا سواء لرجل او امرأة.(هالة الزريقي) تريد أن تقول لنا الواقع مليء بالألم والأمل معا بالكد والكدح والاصرار على البقاء، كما في لوحة الرجل المسن القابض على عصاه وجالس على حجر ينظر الى الأفق البعيد بثياب رثة ومعاناة محفورة في تقاطيع وجهه وسحنته المليئة بالمعاناة، ومع ذلك يتشبث بالحياة وبالأمل والإصرار على أن يكون له وجوده في التأمل وتشوف القادم، نرى هذا أيضا في لوحة العجوز التي تستظل بشمسيتها من قيض الشمس والابتسامة الهادئة والنظرة العميقة والاصرار على العيش وبيع الجبن والكد وكسب الرزق هو العنوان الذي تبقى فيه رغم ماحفره الزمن في وجهها من تجاعيد غلبته بالامل والابتسامة والروح المترعة بالتقوى والأصالة التي تعبر عنها في عمتها وثوبها المتسق في تكوينها جماليا. إنها صورة مشرقة صاغتها روح فنية عالية ورسمتها فنيا معنى مطرزا بالحب والسكينة والسلام. في لوحة اخرى يحضر المكان تستنطقه الفنانة (هالة) تجعله حيويا يتقاسم الجميع فيه العيش المشترك وفي ذات الوقت الهوية الثقافية والتاريخية، إنها لوحة (باب اليمن) بحرفية عالية وواقعية جميلة وحضور دافيء للمكان والإنسان. في كل الاحوال يحضر المكان كروح وتاريخ وثقافة في العديد من لوحات المبدعة (هالة الزريقي ) لنرى جغرافيا الإنسان والتاريخ والحضارة بأبعادها الجميلة والمستلهمة عناوين حضورها من قدرة الفنانة هالة على صياغة الوجود الإنساني والحضاري بفن راق وقدرة على إحداث تحولات بين الواقع ومآلاته والماضي وعراقته. وبرؤية جمالية دلالية استبصارية عميقة.
وفي الاخير،: معرض الفنانة (هالة ) يشكل فيفساء من الجمال والتناغم والرمزية من عمق الواقع واستكناه ملامحه في الرؤية البصرية، فيما تقدمه من اعمال ترتقي إبداعيا الى مصاف الاعمال الفنية المتميزة والتي تشكل إضاءة مشرقة في واقع يكاد الظلام يلفه. إننا أمام فنانة ارتقت بنا جماليا وأنجزت لوحات معبرة لتؤكد تميزها وفرادتها وقدرتها أن تشق طريقا الى مستوى أبداعي.